mujaddid

مسائل فقهية وحديثية

‌المسألة الخامسة والسادسة

سئل، ، عن هذه المسائل المفيدة:

الأولى: إذا رأينا حديثًا في بعض الكتب، مثل الآداب، أو شرح الأربعين لابن حجر الهيثمي ١، أو المنازل، أو المشارق، أو الإقناع، أو المنتهى، ونسبه صاحبه إلى الصحيحين أو بعض المساند، هل يسوغ الأخذ به والعمل به، ولو لم نقف على الأصل؟

الثانية: إذا وجدنا روايتين عن الإمام أحمد مختلفتين، أو أقوالاً لأصحاب مختلفة، وكل يدلي بدليل، هل يجوز العمل بكل منهما؟ وإذا حكى بعض العلماء مثل صاحب الفروع أو غيره، كلامًا للإمام أحمد أو للأصحاب وأمثالهم في مسألة، ولم يذكر استدلالهم على ذلك بشيء، أو ذكر أن فلانًا قال: كذا، وفلانًا قال: كذا، بضد القول الأول، ما الحكم في ذلك؟ إذا قال: الصحيح أو المذهب كذا، هل يعمل به؟

الثالثة: إذا فسر بعض الأصحاب معنى حديث، واستدل به على حكم، وفسره آخر بضده، واستدل به على حكم يقابل الأول، أو نقل عن الإمام تفسير حديث، أو نقل آخر عنه ضده، مثل حديث الإغلاق ٢، قالابن القيم عن الإمام أحمد أنه فسره بالغضب، ونقل غيره أنه أي: الإمام أحمد فسره بالإكراه.

الرابعة: قولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وعلى من اجتهد أو قلد مجتهداً حيًا أو ميتًا، وإذا ورد حديثان متضادان في الحكم، مثل حديث القلتين و بئر بضاعة“، ذكر العلماء ١ أن حديث بئر بضاعة مطلق، وحديث القلتين مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، وذكر غيره أن هذا أي حديث القلتين (بالمفهوم والمطلق منطوق ما يسوغ لمثلنا) ٢، وحديث القلتين استدلوا على صحته، وأن غيره يحمل عليه، بأنه سئل عن إناء ولغ فيه كلب فأمر بإراقته، ولم يسأل هل تغير أم لا.

الخامسة: الثلاث طلقات ٣ المجموعة، ذكر الشيخ منصور في شرح الإقناع وقوعها، يُروى عن ابن عباس، وعن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر قال: وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان؛ فلم يجعل له مخرجًا “. وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد قال: أُخبر رسول الله أن رجلاً طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فغضب وقال: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله، أفلا أقتله؟ ٤. انتهى.

وأما ما روى طاووس عن ابن عباسقال: كان الطلاق على عهد رسول الله وخلافة أبي بكر، وصدر من خلافة عمر: الثلاث واحدة إلخ ١، فقال الأثرم: ٢ سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس بأي شيء تدفعه؟ ٣ قال: أدفعه برواية الناس عن ابن عباس بوجوه خلافه، ثم ذكر عن ابن عباس خلافه من وجوه أنها ثلاث. انتهى.

السادسة: قول أهل العلم: إن اتفاق الأئمة حجة واختلافهم رحمة، فما معنى كون اختلافهم رحمة؟ واحتج بهذه من اتبع بعض ٤ المجتهدين.

السابعة: الحلف بالطلاق، ذكر الشيخ منصور في شرح الإقناع نقلاً عن اختيارات أبي العباس، قال: قال أبو العباس: تأملت نصوص أحمد، فرأيته يأمر باعتزال الرجل امرأته في كل يمين حلف الرجل عليها. انتهى.

فهذا من أبي العباس يدل على أن مذهب الإمام أحمد يدل على صحة الحلف بالطلاق.

الثامنة: مسألة الوقف على الأولاد، ذكر مصنف المنتهى في شرحه عن مسند الحميدي: أن أبا بكر وسعداً وعمرو بن العاص وحكيم بن حزام تصدقوا على أولادهم بدور المدينة “.

التاسعة: قوله : ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ

الْجَاهِلِيَّةِ ١، وقوله: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ٢، وقوله: ٣ ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ٤، ما معنى: سوء الظن بالله؟ وقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ٥، ما معناه؟ وما معنى إدخال البخاري إياه في كتاب الطب؟ وكذلك الحديث الذي أورده: ما من مسلم يصيبه أذى ٦، فإن فسرتم الأذى بجميع المكروهات كما هو المشهور من معنى اللفظ الأخير: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ٧، فعطف الأذى على ما تقدم، والعطف يقتضي المغايرة؛ هل المراد: المسلم ٨ الذي لم يصدر منه شرك بالكلية، أم لا؟ وما معنى قولهم: من الشرك: التصنع للمخلوق ٩، وخوفه ورجاؤه؟ وهل المراد به: الشرك الأكبر أو الأصغر؟ ١٠.

وقوله: أنا عند ظن عبدي بي: إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن بي شرًا فله ١١، ما معناه؟ والحديث الذي فيه النهي عن قيل وقال، وعن كثرة السؤال وإضاعة المال، وقوله : الشؤم في ثلاثة: في المرأة، والدار، والفرس ١٢، ما معناه؟

وترك الخارص الثلث أو الربع، هل هو صحيح أم لا؟ فإن قلتم: لا، فما معنى الحديثالذي استدل به مَن جوّزه، وهو قوله للعباس: هي علي، ومثلها معها “؟ وقوله: الماهر بالقرآن ١ مع السفرة الكرام البررة. والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران “، هل المراد: حفظ حروفه، ويحصل الفضل بذلك أم لا؟ والحفظ مع فهم المعاني؟ وما معنى المشقة والتعاهد؟ وما معنى قوله: ٢ طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ٣. أفتونا مأجورين.

فأجاب، : اعلم أرشدك الله -: أن الله بعث محمدًا بالهدى الذي هو: العلم النافع، ودين الحق الذي هو: العمل الصالح؛ إذا كان من ينتسب إلى الدين: منهم من يتعانى بالعلم والفقه ويقول ٤ به كالفقهاء، ومنهم من يتعانى العبادة وطلب الآخرة كالصوفية، فبعث الله نبيه بهذا الدين الجامع للنوعين.

ومن أعظم ما امتن الله ٥ به عليه وعلى أمته، أن أعطاه جوامع الكلم، فيذكر الله تعالى في كتابه كلمة واحدة تكون قاعدة جامعة يدخل تحتها من المسائل ما لا يحصى; وكذلك يتكلم رسول الله بالكلمة الجامعة. ومن فهم هذه المسألة فهمًا جيدًا، فهم قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ٦، وهذه الكلمة أيضاً من جوامع الكلم، إذ الكامل لا يحتاج إلى زيادة. فعلم منه بطلان كل محدث بعد رسول الله وأصحابه، كما أوصانا بقوله: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة ١، وكل بدعة ضلالة “، وفهم أيضاً معنى قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ٢. فإذا كان الله سبحانه قد أوجب علينا أن نرد ما تنازعنا فيه إلى الله، أي: إلى كتابه، وإلى الرسول، أي: إلى سنته، علمنا قطعًا أن من رد إلى الكتاب والسنة ما تنازع فيه الناس، وجد فيه ما يفصل النزاع.

وهذه كلمات يسيرة تحتاج إلى بسط طويل، وتشير إلى حظ جليل، وإنما قدمتها لأن من عرفها انجلى عنه إشكالات كثيرة في مسائل لا تحصر، منها بعض هذه المسائل المسؤول عنها، من ذلك جواب:

المسألة الثانية: إذا اختلف كلام أحمد وكلام أصحابه، فنقول: في محل النزاع، التراد إلى الله والرسول، لا إلى كلام أصحابه، ولا إلى الراجح المرجح من الروايتين والقولين، خطأ قطعًا، وقد يكون صوابًا. وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل، فالأدلة ٣ الصحيحة لا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل: (لأنه) ٤ إما استدل بحديث لم يصح، وإما (لأنه) ٥ فهم من كلمة صحيحة مفهومًا مخطئًا.وبالجملة، ١ فمتى ٢ رأيت الاختلاف، فرُدَّه إلى الله والرسول، فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين واحتجت إلى العمل، فقلد من تثق بعلمه ودينه؛ وهل يتخير الرجل عند ذلك أو يتحرى أو يقلد الأعلم أو الأورع؟ فيه كلام ليس هذا موضعه.

فتبين بهذا جواب المسألة الثانية والثالثة والرابعة.

وأما المسألة الأولى: فإن كان صاحب الكتاب ٣ ثقة مأمونًا، ونسبه إلى الصحيحين وغيرهما، جاز العمل بقوله، ولا أحد منع ذلك.

وأما المسألة الخامسة وهي قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فجوابها يعلم من القاعدة المتقدمة. فإن أراد القائل مسائل الخلاف كلها، فهذا باطل يخالفه إجماع الأمة؛ فما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف أو أخطأ كائنًا من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم. وإذا كان الله قد بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئًا نبِّه على خطئه، وأُنكر عليه.

وإن أريد بمسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس؛ فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم، لا يجوز أن ينكرإلا بعلم. وهذا كله داخل في قوله تعالى ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ١.

وأما‌المسألة السادسة، وهي قولك: إذا ورد حديثان متضادان مثل حديث القلتين وحديث ٢ بئر بضاعة إلخ، وهذه عبارة لا ينبغي أن تقال، وحاشا كلام الله وكلام رسوله من التضاد، بل كله حق يصدق بعضه بعضًا. والواجب على المؤمن في ٣ مثل هذا أن يحسن الظن بكلام الله وكلام رسوله، ويقول كما أمر الله: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ٤، فإذا تبين له الحق فليقلْ به وليعملْ به، وإلا فليمسكْ وليقل: الله ورسوله أعلم؛ فإن الله تعالى ابتلى الناس بالمتشابه كما ابتلاهم بالمحكم، ليعلم من يقف حيث وقفه الله، ومن يقول على الله بلا علم. نعم قد يرد حديثان متضادان، ولكن أحدهما ليس بصحيح، وقد يكون أحدهما ناسخًا، لكنه قليل جدًا، ومع ذلك لا يرد المنسوخ إلا وقد يرد ما يبينه ٥.

وأما قولك: ما يسوغ لمثلنا; فالذي يسوغ بل يجب، ما وصفت لك، وهو: طلب علم ما أنزل الله على رسوله، ورد ما تنازع فيه المسلمون إليه ٦. فإن علمه الله شيئاً فليقل به، وإلا فليمسك، ويقول: الله أعلم، ويجعله من العلم الذي لا يعرفه. فلو بلغ الإنسان في العلم ما بلغ لكان ٧

ما علمه قليلاً بالنسبة إلى ما لم يعلمه. وقد قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّّ قَلِيلاً ١.

وأما المسألة السابعة، فكونها مروية عن الصحابة فمسلم، ويكفي في ذلك ما ورد عن المحدث الملهم الذي أُمرنا باتباع سنته، ثاني الخلفاء: عمر ابن الخطاب؛ ولكن ليس في هذا ما يرد القول الآخر.

وأما الحديث: أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ٢، فهذا يدل على أن جمع الثلاث لا يجوز؛ وأما كونه ألزم بها فلم يذكر في الحديث. والذي يقول: إنها واحدة، لا يقول: إن التلفظ بها يجوز، بل يقول: هو منكر من القول وزور، كما في الحديث.

وأما رد الإمام أحمد، ، ذلك بمخالفة راويه ٣ له، فهذه مبنية على مسألة أصولية، وهي: أن الصحابي إذا أفتى بخلاف ما روى، هل يقدح فيه؟ والصحيح أنه لا يقدح فيه؛ فإن الحجة في روايته لا في رأيه. وبالجملة فالمسألة مسألة طويلة، لعل المذاكرة تقع فيها شفاهًا.

وأما المسألة الثامنة، وهي قول من قال: اتفاق العلماء حجة واختلافهم رحمة، فليس المراد به الأئمة الأربعة، بإجماع الأئمة كلهم، وهم علماء الأمة. وأما قولهم: اختلافهم رحمة، فهذا باطل، بل الرحمة في الجماعة، والفرقة عذاب، كما قال تعالى: ﴿وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ٤، فلما سمع عمر أن ابن مسعود وأبيًّا اختلفا في صلاة الرجل في الثوب الواحد، صعد المنبر وقال: اثنان من أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم، فعن أي فتياكم ١ يصدر المسلمون؟ لا أجد اثنين اختلفا بعد مقامي ٢ هذا، إلا فعلت وفعلت “.

لكن قد روي عن بعض التابعين أنه قال: ما أحسب اختلاف أصحاب رسول الله إلا رحمة للناس، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة “، ومراده شيء آخر غير ما نحن فيه; ومع هذا فهو قول مستدرك، لأن الصحابة بأنفسهم ذكروا أن اختلافهم عقوبة وفتنة.

وأما المسألة التاسعة، وهي مسألة الحلف بالطلاق، فغاية ما ذكره أنه مذهب أحمد، ومذهب غيره يخالفه، ومن كانت الحجة معه فهو المصيب.

وأما مسألة الوقف، فالكلام فيها طويل يحتاج إلى مذاكرة. وبالجملة: فلا ننكر إلا ما خالف أمر الله ورسوله، وطريقة الصحابة وأتباعهم، وأما ما فعله الصحابة فعلى الرأس والعين.

وأما قوله تعالى: ﴿يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ٣، وقوله: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ٤، فقد بسط الكلام عليها في الهدي على وقعة أحد، وقد فسره بأشياء كثيرة نقولها ونعتقدها، ولا نظن إلا أنها عقل وصواب، فتأمل كلامه تأملاً جدًا.

وأما قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ٥، وإدخال البخاري لها في كتاب الطب، فمراد البخاري أن هذه الأمراض التي يكرهها العبد هي مما يكفّر الله بها عن المؤمن سيئاته ويطهّره بها، لأن قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ٦ عام في جزاء الدنيا والآخره.وأما إدخاله هذا في كتاب الطب فواضح، وأهل العلم يذكرون في الباب ما هو أبعد من هذا تعلقًا واستطرادًا.

وأما قوله: ما من مسلم يصيبه أذى ١ فهو عام. وأما عطف الأذى على الوصب والنصب والهم، فمن عطف العام على الخاص، وهو كثير جدًا في كلام العرب وفي كلامنا.

وأما سؤالكم: هل هذا في المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية، فنقول: ٢ أما الشرك الذي يصدر من المؤمن وهو لا يدري، مع كونه مجتهدًا في اتباع أمر الله ورسوله، فأرجو أن لا يخرجه هذا من الوعد. وقد صدر من الصحابة أشياء من هذا الباب: كحلفهم بآبائهم، وحلفهم بالكعبة ٣، وقولهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقولهم: اجعل لنا ذات أنواط؛ ولكن إذا بان لهم الحق اتبعوه، ولم يجادلوا فيه حمية الجاهلية لمذهب الآباء والعادات. وأما الذي يدعي الإسلام وهو يفعل من الشرك الأمور العظام، فإذا تليت عليه آيات الله استكبر عنها، فهذا ليس بالمسلم ٤. وأما الإنسان الذي يفعلها بجهالة، ولم يتيسر له من ينصحه، ولم يطلب العلم الذي أنزله الله على رسوله، بل أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلا أدري ما حاله.

وأما قول من قال: من الشرك: التصنع للمخلوق، فلعل مراده: التصنع بطاعة الله الذي يسمى الرياء، وهو كثير جدًا، فهذا صحيح في أمورلا يفطن لها صاحبها. وأما خوف المخلوق، فالمراد به: الخوف الذي يحملك أن تترك ما فرض الله عليك، وتفعل ما حرم الله عليك، خوفاً من ذلك المخلوق. وأما الرجاء فلعل المراد: الذي يخرج العبد عن التوكل على الله والثقة بوعده. وكل هذه الأمور كثيرة جدًا. (وأما قولك: هل المراد به الشرك الأصغر أو الأكبر؟ فهذا يختلف باختلاف الأحوال؛ وقد يتصنع لمخلوق فيخافه أو يرجوه، فيدخل في الشرك الأصغر. وقد يتزايد ذلك ويتوغل فيه حتى يصل إلى الشرك الأكبر) ١.

وأما قوله: الشؤم في الثلاث إلخ. فهذا أشكل على من قبلنا، حتى إن عائشة كذبته وقالت: هذا كلام أهل الجاهلية، ولكنه صح. وقد تكلموا في تفسيره ولم يتبين لي معناه، والله أعلم بمراد رسوله.

وأما ترك الخارص الثلث، فقد سمع الجماعة فيها ما تيسر; وبالجملة، فأرجح الأقوال فيها عندي: قول أكثر أهل العلم إنه غير مقدر ٢، بل يترك له ٣ قدر ما يأكله ويخرجه رطبًا باجتهاد الخارص. وعلى هذا تجتمع الأدلة ويصدق بعضها بعضًا.

وأما ما ورد من الفضل في حفظ القرآن: هل المراد حفظه مع حفظ المعاني؟ فلا يحضرني جواب يفصل المسألة، ولكن حفظه مع عدم الفهملا يوجد في زمن النبي والخلفاء، إلا شيئاً لا أعلمه ١، وأظنه لو وجد في زمانهم لكان مشهورًا (كشهرة الرجل) ٢ الذي يسمى عندنا (حمار) ٣، الفروع، لما ذكر أنه يحفظ الفروع ولا يفهمه، وقد قال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ٤، وذكر ابن القيم أن هذه لو نزلت في التوراة، فالقرآن كذلك، لا فرق بينهما. ولذلك ذم الله ٥ الذين يقرؤون بلا فهم، كقوله: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ ٦ أي: تلاوة بلا فهم! والمراد من إنزال القرآن: فهمُ معانيه والعمل به، لا مجرد تلاوته.

وأما قوله: طعام الواحد يكفي الاثنين إلخ“، فلا أعلم له معنى غير ظاهره.

وأما إغلاق الباب أيام ٧ الجذاذ ٨، فلا أتجسر على الجزم بتحريمه، ولكن أظنه لا يجوز في هذا المعنى، ومن ٩ الكتاب والسنة وكلام أهل العلم، من ذلك ما ذكرها الله في سورة ن عن أصحاب الجنة: ﴿إِذْ أَقْسَمُوالَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ١، وهم لم يغلقوا الباب، بل تحيلوا بالصرام في وقت لا ٢ يأتي فيه المساكين.

وأما تأخير الزكاة فلا يجوز، ومن استدل بحديث: هي علي، ومثلها معها ٣، فقد أخطأ خطأً واضحاً: الأول: أن ظني أن الحديث لا يدل على المسألة المسؤول عنها. فإن المسألة المسئول عنها (أن) ٤ صاحب المال هل يحل له تأخير الزكاة عن وقتها لحاجة أو غيرها؟ والمسألة التي قال بعض أهل العلم: الحديث يدل عليها، ليست هذه، بل إذا رأى الإمام أو الساعي أن يؤخر الزكاة لمصلحة; وهذه مسألة غير الأولى. والدليل على هذا ٥ أن أحمد سئل عن تأخير الزكاة، فمنعه وشدد فيه، وسئل عن الساعي إذا أراد تأخيرها في سنة مجدبة، فرخص له واستدل بفعل عمر. مثال ذلك: أن ولي اليتيم إذا قيل له: إنه يجوز (له) ٦ بيع عقاره لمصلحة ٧، هل يحل لأحد أن يستدل بهذه المسألة، إذا كان عندهم ليتيم دار أو عقار، لا يعلم بها وليه، فأراد أن يعطي الولي أو اليتيم عنها لمصلحة المعطى، هل يقول أحد إن هذا جائز؟ ولو استدل أحد على جوازه ببيع وليه عقاره لمصلحة، لعده الناس ضحكة! فينبغي لطالب العلم أن يتفطن لصورة المسألة في الدليل الذي يدل عليها، ويجيل ٨ نظره في ذلك؛ فإن كثيرًا من الأغاليط وقعتفي مسألة واضحة جدًا، ويستدل بشيء من القرآن أو السنة، وهو لا يدل على ذلك، كما فعله الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ١ الآية.

فنسأل الله تعالى أن يهدينا لما يحبه ويرضاه.

الكتاب: فتاوى ومسائل (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الرابع). 
المؤلف: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (ت ١٢٠٦هـ).
المحقق: صالح بن عبدالرحمن الأطرم، محمد بن عبدالرزاق الدويش.
الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.
عدد الصفحات: ١٢٩

 
 
تحميل الكتاب
شارك المحتوى عبر