-الرسالة الحادية عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
ومنها رسالة أرسلها جوابًا لعبد الله بن سحيم، مطوع أهل المجمعة، حين سأله عن الكتاب الذي أرسله عدو الله سليمان بن محمد بن سحيم مطوع أهل الرياض؛ وكانت رسالة أرسلها إلى أهل البصرة والحسا، يشنّع فيها على الشيخ بالكذب والبهتان، والزور والباطل الذي ما جرى، وما كان قصده بذلك الاستنصار بكلامهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد وإخلاص الدعوة لله، وهدم أركان الشرك، وإبطال مناهج الضلال والإفك، ورام هذا أن يرتقي إلى ذلك بأسباب، ويستدعى من كل معاند مكابر الجواب، فإن الله تعالى بفضله قد أزال اللبس والحجاب، وكشف عن القلوب ظلمات الرين والاحتجاب، وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم.
وبعد، أتانا ١ مكتوبك، وما ذكرت فيه من ذكرك وما بلغك. ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب من العارض، جملتها أربع وعشرون مسألة، بعضها حق وبعضها بهتان وكذب. وقبل الكلام فيها، لا بد من تقديم أصل؛ وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا، ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة، هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم؟وإنما ذكرت هذا ولو كان واضحًا، لأن بعض المسائل التي ذكرت، أنا قلتها لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم، الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشؤوا عليها، فأنكرها علي ١ لأجل مخالفة العادة، وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عيانًا، وأقروا بها، وشهدوا أن كلامي هو الحق؛ لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم: ﴿فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾ ٢ الآية.
وهذا هو ما نحن فيه بعينه؛ فإن الذي راسلكم هو عدو الله ابن سحيم، وقد بينت ذلك له فأقر به، وعندنا كتب يده في رسائل متعددة أن هذا هو الحق. وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر لأسباب، أعظمها: البغي أن يُنْزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله: إذا كان هذا هو الحق، فلأي شيء لم تنهوْنا عن عبادة شمسان وأمثاله؟ فتعذروا أنكم ما سألتمونا. قالوا: وإن لم نسألكم، كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا؟ وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة، وأن فيه شرفًا لغيره. وأيضًا، لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا، إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدجل عندكم وعند غيركم بالبهتان. والله ناصر دينه ولو كره المشركون. وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء، فضلًا عن العوام.
وأنا أضرب لك مثلًا بمسألة واحدة، وهي مسألة الاستجمار ثلاثًا فصاعدا، غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة لا خلاف في ذلك؛ ومع هذا، لو يفعله أحد لصار هذا عند الناس أمرًا عظيمًا، ولنهوا عن الصلاه خلفه، وبدّعوه، مع إقرارهم بذلك،ولكن لأجل العادة.
إذا تبين هذا، فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول: إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أدعي الاجتهاد، وقوله: إني خارج عن التقليد، وقوله: إني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله: إني أكفّر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفّر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، وقوله: إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابًا من خشب، وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي ﷺ، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفّر من يحلف بغير الله.
فهذه اثنتا عشرة مسألة، جوابي فيها أن أقول:»سبحانك هذا بهتان عظيم! ولكن قبله من بهت النبي محمدًا ﷺ أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين. تشابهت قلوبهم. وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة، وعيسى، وعزيرًا في النار، فأنزل الله في ذلك: ﴿إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ﴾ ١ الآية.
وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى «لا إله إلا الله»، ومنها: أني أعرّف من يأتيني بمعناها، ومنها: أني أقول: الإله هو الذي فيه السر، ومنها: تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله، وأخذ النذر كذلك، ومنها: أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن، فهذه خمس مسائل كلها حق، وأنا قائلها.
ونبدأ بالكلام عليها لأنها أمّ المسائل، وقبل ذلك أذكر معنى «لا إله إلا الله»، فنقول: التوحيد نوعان: توحيد
الربوبية وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لا بد منه، لكن لا يُدخل الرجل في الإسلام لأن أكثر الناس مقرّون به، قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾ إلى قوله: ﴿أفَلا تَتَّقُونَ﴾ ١. وإن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو: أن لا يعبد إلا الله، لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا؛ وذلك أن النبي ﷺ بُعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله: فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة، فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحّد، ولا يدعى أحد من دونه، لا الملائكة ولا الأنبياء؛ فمن تبعه ووحد الله، فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة، واستنصرهم والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله.
وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء. ولما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها ﷺ، حيث قال: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» ٢، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم: ﴿اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ﴾ ٣، فصار ناس من الضالين يدعون أناسًا من الصالحين في الشدة والرخاء، مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعديّ بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار، وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار من
جميع المذاهب الأربعة في سائر الأقطار والأمصار، فلم يحصل منهم انزجار، بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم من ذلك. وبين أهل العلم أن أمثال هذا هو الشرك الأكبر.
وأنت ذكرت في كتابك تقول: يا أخي، ما لنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم؛ وأنا أقول: كلام أهل العلم رضى، وأنا أنقله لك، وأنبهك عليه؛ فتفكرْ فيه، وقم لله ساعة ناظرًا ومناظرًا، مع نفسك ومع غيرك. فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء، أعني دين الإسلام الصرف، الذي لا يمزج بالشرك والبدع، وأما الإسلام الذي ضده الكفر، فلا شك أن أمة محمد ﷺ آخر الأمم، وعليها تقوم الساعة، فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك.
واعلم أن الأمر عظيم، والخطب جسيم. فإن أشكل عليك شيء، فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير. واعتبر لنفسك حيث قلت لي فيما مضى: إن هذا هو الحق الذي لا شك فيه، لكن لا نقدر على تغييره، وتكلمت بكلام حسن؛ فلما غربلك الله بولد المويس، ولبس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان، ويسب دين الله ورسوله، لم تفطن لجهله وعظم ذنبه، وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس. وكلامي هذا لا يغيرك، فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم، وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا ويغلطون فيه، فضلًا عنا وعن أمثالنا. فلعله إن أشكل عليك تواجهني؛ هذا إن عرفت أنه حق وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء، عرفتَ أني لم أفهم معناها، وأن الذي نقلتُ لك كلامهم أخطؤوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم، فنبهني على الحق، وأرجع إليه إن شاء الله تعالى.
فنقول: قال الشيخ تقي الدين: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى قلبوا حقيقته: فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية، ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأرْضُ ومَن فِيها إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ١ الآيات، وهذا حق، لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله، فلا يعبد إلا الله، فيكون دينه لله؛ والإله هو: المألوه الذي تألهه القلوب. وأطال، ﵀، الكلام.
وقال أيضًا، في «الرسالة السنية» التي أرسلها إلى طائفة من أهل العبادة ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيه، فذكر حديث الخوارج، ثم قال: فإذا كان في زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين ممن ينتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين، وذلك بأمور: منها: الغلوّ الذي ذمه الله، مثل الغلو في عديّ بن مسافر أو غيره، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه؛ فكل من غلا في نبي، أو صحابي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني! أو أنا في حسبك، ونحو هذا، فهذا كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليُعبد ولا يُدعى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر، وتنبت النبات،
وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل وأنزل الكتب، تنهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وأطال الكلام، ﵀. فتأمل كلامه في أهل عصره من أهل النظر الذين يدعون العلم، ومن أهل العبادة الذين يدعون الصلاح.
وقال في الإقناع، في باب حكم المرتد في أوله: فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته – إلى أن قال – أو استهزأ بالله أو رسله، قال الشيخ: أو كان مبغضًا لرسوله أو لما جاء به اتفاقًا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم، كفَر إجماعًا – إلى أن قال – أو أنكر الشهادتين أو إحداهما. فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، وتأمل هل قالوا هذا في أشياء وجدت في زمانهم، واشتد نكيرهم على أهلها، أو قالوها ولم تقع. وتأمل الفرق بين جحد الربوبية والوحدانية، والبغض لما جاء به الرسول.
وقال أيضًا في أثناء الباب: ومن اعتقد أن لأحد طريقًا إلى الله غير متابعة محمد ﷺ، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجًا عن اتباعه، أو قال: أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، كفَر في هذا كله. ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه، وجزم بكفرهم، وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة، وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء، لقضيت العجب.
وقال أيضًا في الباب: ومن سب الصحابة، واقترن بسبه دعوى أن عليًا إله أو نبي، أو أن جبريل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. فتأمل هذا. إذا كان
كلامه هذا في عليّ، فكيف بمن ادعى أن ابن عربي أو عبد القادر إله؟ وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب. واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي ﷺ، بأنهم يدعون الأولياء والصالحين في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات وقضاء الحاجات، مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم، وإلا فهم مقرّون بأن الأمر لله؛ فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى: ﴿وإذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلّا إيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إلى البَرِّ أعْرَضْتُمْ﴾ ١ الآية.
وقال أيضا في الإقناع في الباب: ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد ورقي وكلام يتكلم به أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يبغض أحدهما للآخر، ويحبب بين اثنين، ويكفر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس خصوصًا الصرف والعطف، تعرف أن الكفر ليس ببعيد. وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه تأملًا جيدًا. وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجارة، يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم.
وأما الحنفية، فقال الشيخ قاسم في شرح درر البحار: النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلًا: يا سيدي فلان، إن ردّ غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك كذا وكذا، باطل إجماعًا لوجوه، منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: ظن أن الميت يتصرف
في الأمر واعتقاد هذا كفر – إلى أن قال – إذا عرف هذا، فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها، وينقل إلى ضرائح الأولياء، فحرام بإجماع المسلمين؛ وقد ابتلي الناس بهذا، لا سيما في مولد أحمد البدوي. فتأمل قول صاحب النهر، مع أنه بمصر ومقر العلماء، كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه. فتأمل قوله من أكثر العوام، أتظن أن الزمان صلح بعده؟
أما المالكية، فقال الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع: روى البخاري عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال: الله أكبر، هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة. لتركبنّ سنن من كان قبلكم». فانظروا، رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها. وقال ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس» ١. ومعنى هذا: أن الله لما جاء بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته غريبًا مستخفيًا بإسلامه، قد جفاه العشيرة، فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبًا لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناسن لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.
وروى البخاري عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: «والله ما أعرف فيهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعًا»، وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره. وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكيفقلت: ما يبكيك؟ فقال: «ما أعرف فيهم شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة؛ وهذه الصلاة قد ضيعت». انتهى كلام الطرطوشي.
فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت؟ وفي أي مكان؟ وهل أنكرها أحد من أهل العلم؟ والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة، وقول الصادق المصدوق إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على العالمين لنبيهم: اجعل لنا إلهًا، يا عجبا! إذا جرى هذا من أولئك السادة، كيف ينكر علينا أن رجلًا من المتأخرين غلط في قوله: يا أكرم الخلق؟ كيف تعجبون من كلامي فيه، وتظنونه خيرًا وأعلم منهم؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركًا أو كفرًا أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
ولكن أين كلامك هذا من كتابك الذي أرسلت إليّ قبل أن يغربلك الله بصاحب الشام، وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق، وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار؟ ومرادي: أن أبين لك كلام الطرطوشي، وما وقع في زمانه من الشرك بالشجر، مع كونه في زمن القاضي أبي يعلى. أتظن الزمان صلح بعده؟
وأما كلام الشافعية، فقال الإمام محدث الشام: أبو شامة في كتاب «الباعث على إنكار البدع والحوادث»، وهو في زمن الشارح وابن حمدان: وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام، المنتمين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، فهم داخلون تحت قوله: ﴿أمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ ١ الآية.
وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع في كل بلد؛ يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه أحدًا ممن شهر بالصلاح، فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي بين عيون وشجر، وحائط وحجر. وفي دمشق، صانها الله، من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر، سهل الله قطعها؛ فما أشبهها بذات أنواط.
ثم ذكر كلامًا طويلًا – إلى أن قال – أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه.
فتأمل ذكره في هذا النوع، أنه نبذ لشريعة الإسلام، وأنه خروج على الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء به في الشام. فأنت قل لصاحبكم: هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريبًا. فهو بين اثنتين: إما أن يقول: كل هؤلاء العلماء جاهلون، ضالون مضلون خارجون، وإما أن يدعي أن زمانه وزمان مشايخه صلح بعد ذلك.
ولا يخفاك أني عثرت على أوراق عند ابن عزاز، فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه رجل يقال له عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله؛ وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر. فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه هو شيخهم، ويثنون عليه أنه العارف بالله، فكيف يكون الأمر؟ ولكن أعظم من هذا كله ما تقدم
عن أبي الدرداء وأنس وهما بالشام، ذلك الكلام العظيم. واحتج به أهل العلم على أن زمانهم أعظم، فكيف بزماننا؟
وقال ابن القيم، ﵀، في الهدي النبوي، في الكلام على حديث وفد الطائف لما أسلموا وسألوا النبي ﷺ أن يترك لهم اللات لا يهدمها سنة، ولمّا تكلم ابن القيم على المسائل المأخوذة من القصة قال: ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يومًا واحدًا؛ فإنها شعائر الشرك والكفر، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانًا تُعبد من دون الله، والأحجار التي تُقصد للتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته؛ وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركًا عندها وبها. والله المستعان. ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من قبلهم، وسلكوا سبيلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة. وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وخفاء العلم. وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير. وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء. وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناسز انتهى كلامه.
وقال أيضًا، في الكلام على هذه القصة، لما ذكر أن النبي ﷺ أخذ مال اللات وصرفه في المصالح: ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه
الطواغيت، في الجهاد ومصالح المسلمين؛ فيجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام، كما أخذ النبي ﷺ أموال اللات. وكذا الحكم في وقفها؛ والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين؛ فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة الله ورسوله، فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم، وينذر له ويعبد من دون الله. وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الدين، ومن اتبع سبيلهم. انتهى كلامه.
فتأمل كلام هذا الرجل الذي هو من أهل العلم، وهو أيضًا من أهل الشام، كيف صرح أنه ظهر في زمانه فيمن يدعي الإسلام في الشام وغيره عبادة القبور والمشاهد، والأشجار والأحجار، التي هم أعظم من عبادة اللات والعزى أو مثله، وأن ذلك ظهر ظهورًا عظيمًا حتى غلب الشرك على أكثر النفوس، وحتى صار الإسلام غريبًا، بل اشتدت غربته. أين هذا من قول صاحبكم لأهل الوشم في كتابه، لما ذكروا له أن في بلدانكم شيئًا من الشرك: يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين. وكلام هؤلاء الأئمة من أهل المذاهب الأربعة، أعظم وأعظم وأطمّ مما قال ابن عيدان وصاحبه في أهل زمانهما، أفَترى هؤلاء العلماء أتوا فرية عظيمة ومقالة جسيمة؟
فهذا ما يسر الله نقله من كلام أهل العلم على سبيل العجلة، فأنت تأمله تأملًا جيدًا، واجعل تأملك لله، مستعيذًا بالله من اتباع الهوى. ولا تفعل فعلك أولًا لما ذكرت لك أنك تتأمل كلامي وكلامه: فإن كان كلامي صحيحًا لا مجازفة فيه، وأن شاميكم لا يعرف معنى «لا إله إلا الله»، ولا يعرف عقيدة الإمام أحمد وعقيدة الذين ضربوه، فاعرف
قدره، فهو بغيره أجهل. واعرف أن الأمر أمر جليل، فإن كان كلامي باطلًا، ونسبت رجلًا من أهل العلم إلى هذه الأمور العظيمة بالكذب والبهتان، فالأمر أيضًا عظيم، فأعرضت عن ذلك كله وكتبت لي كتابًا في شيء آخر. فإن كان مرادك اتباع الهوى أعاذنا الله منه، وأنك مع ولد المويس كيف كان فاترك الجواب؛ فإن بعض الناس يذكرون عنك أنك صائر معه لأجل شيء من أمور الدنيا. وإن كنت مع الحق، فلا أعذرك من تأمل كلامي هذا وكلامي الأول، وتعرضهما على كلام أهل العلم، وتحررهما تحريرًا جيدًا، ثم تتكلم بالحق.
إذا تقرر هذا، فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء، وأضيف إليها مسألة سادسة وهي: إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم، وسميتهم طواغيت، وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله، عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف. وليس في كلامي مجازفة، بل هو الحق، لأن عبّاد اللات والعزى يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة، وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم في شدائد البر والبحر. فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق والانقياد له، والكفر بالطاغوت والتبري ممن خالف هذه الأصول، ولو كان أباك أو أخاك، فاكتب لي وبشرني، لأن هذا ليس مثل الخطإ في الفروع، بل ليس الجهل بهذا فضلًا عن إنكاره مثل الزنى والسرقة؛ بل والله، ثم والله، ثم والله، إن الأمر أعظم. وإن وقع في قلبك إشكال، فاضرع إلى مقلّب القلوب أن يهديك لدينه ودين نبيه.
وأما بقيه المسائل، فالجواب عنها ممكن إذا خلصنا من شهادة أن لا إله إلا الله، وبيننا وبينكم كلام أهل العلم. لكن العجب من قولك: أنا هادم قبور الصحابة، وعبارة الإقناع في الجنائز يجب هدم القباب التي على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول؛
والنبي ﷺ صح عنه أنه بعث عليًا لهدم القبور. ومثل صاحب كتابكم لو كتب لكم أن ابن عبد الوهاب ابتدع، لأنه أنكر على رجل تزوج أخته، فالعجب كيف راج عليكم كلامه فيه.
وأما قولي: إن الإله الذي فيه السر، فمعلوم أن اللغات تختلف؛ فالمعبود عند العرب والإله الذي يسمونه عوامنا: السيد، والشيخ، والذي فيه السر، والعرب الأولون يسمون ١ الألوهية ما يسميها عوامنا: السر، لأن السر عندهم هو: القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يُدعى ويُرجى ويُخاف ويُتوكل عليه. فإذا قال رسول الله ﷺ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ٢، وسئل بعض العامة: ما فاتحة الكتاب؟ ما فسرتَ له إلا بلغة بلده، فتارة تقول: هي: فاتحة الكتاب، وتارة تقول: هي: أم القرآن، وتارة تقول: هي: الحمد، وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد. ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم، فهذا وجه الإنكار، فبينوا لنا. والحمد لله رب العالمين.
١ في المخطوطة: (لفانا) ومعناها وصلنا.١ في المخطوطة والمصورة زيادة: (من أنكرها).
٢ سورة البقرة آية: ٨٩.
١ سورة الأنبياء آية: ١٠١.
١ سورة يونس آية: ٣١.
٢ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/٨٤، ٣/٨٩، ٣/٩٤).
٣ سورة التوبة آية: ٣١.
١ سورة المؤمنون آية: ٨٤.
١ سورة الإسراء آية: ٦٧.
١ مسلم: الإيمان (١٤٥)، وابن ماجة: الفتن (٣٩٨٦)، وأحمد (٢/٣٨٩).
١ سورة الشورى آية: ٢١.
١ في المصورة: (يسمونه).
٢ البخاري: الأذان (٧٥٦)، ومسلم: الصلاة (٣٩٤)، والترمذي: الصلاة (٢٤٧)، والنسائي: الافتتاح (٩١٠، ٩١١)، وأبو داود: الصلاة (٨٢٢)، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (٨٣٧)، وأحمد (٥/٣٢١)، والدارمي: الصلاة (١٢٤٢).