الرسالة السابعة عشرة: رسالة إلى أهل المغرب، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد.
فقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحانَ اللَّهِ وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ١، وقال تعالى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ ٢، وقال تعالى: ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ ٣، وقال تعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ ٤. فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين، وأتمه على لسان رسوله ﷺ، وأمرنا بلزوم ما أُنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف، فقال تعالى: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ} ١.
وقال تعالى: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ٢.
والرسول ﷺ قد أخبر بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه ﷺ أنه قال: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» ٣.
وأخبر في الحديث الآخر: «أن أُمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ٤.
إذا عرف هذا، فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها: الإشراك بالله، والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله.
وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كصرف جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، كما قال تعالى: {فاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ألا لِلَّهِ الدِّينُ الخالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى إنَّ اللَّهََحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ} ١.
فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصًا لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار، فكذبهم في هذه الدعوى وكفّرهم، فقال: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ﴾ ٢. وقال تعالى: ﴿ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ٣، فأخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة، فقد عبدهم وأشرك بهم؛ وذلك أن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعًا﴾ ٤، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: ﴿مَن ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإذْنِهِ﴾ ٥، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلاَّ مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ ٦؛ وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى: ﴿ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضى﴾ ٧.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الأرْضِ وما لَهُمْ فِيهِما مِن شِرْكٍ وما لَهُ مِنهُمْ مِن ظَهِيرٍ ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلاَّ لِمَن أذِنَ لَهُ} ١. فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أحَدًا﴾ ٢، وقال: ﴿ولا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ ولا يَضُرُّكَ فَإنْ فَعَلْتَ فَإنَّكَ إذًا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ ٣.
فإذا كان رسول الله ﷺ، وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه، لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل «يأتي فيخرّ ساجدًا، فيحمده بمحامد يعلّمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفّع. ثم يحدّ له حدًا فيدخلهم الجنة» ٤، فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم.
وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم، وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادًا، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها النبي ﷺ، وحذر منها، كما في الحديث عنه ﷺ أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان» ٥. وهو ﷺ حمى جناب التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر. وثبت فيه أيضًا أنه بعث علي بن أبي طالب ﵁، وأمره أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه، ولا تمثالًا إلا طمسه؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القبب المبنية على القبور، لأنها أسست على معصية الرسول ﷺ.
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفّرونا وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم. وهو الذي ندعو الناس إليه، ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة، ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ ١. فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان، قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ ٢. وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ وأمَرُوا بِالمَعْرُوفِ ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ ولِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ ٣.فهذا هو الذي نعتقد وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم؛ له ما لنا وعليه ما علينا.
ونعتقد أيضًا: أن أمة محمد ﷺ المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وصلى الله على محمد.
١ سورة يوسف آية: ١٠٨.
٢ سورة آل عمران آية: ٣١.
٣ سورة الحشر آية: ٧.
٤ سورة المائدة آية: ٣.
١ سورة الأعراف آية: ٣.
٢ سورة الأنعام آية: ١٥٣.
٣ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/٨٤، ٣/٨٩، ٣/٩٤).
٤ الترمذي: الإيمان (٢٦٤١).
١سورة الزمر آية:٢- ٣.
٢ سورة الزمر آية: ٣.
٣ سورة يونس آية: ١٨.
٤ سورة الزمر آية: ٤٤.
٥ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٦ سورة طه آية: ١٠٩.
٧ سورة الأنبياء آية: ٢٨.
١ سورة سبأ آية: ٢٢-٢٣.
٢ سورة الجن آية: ١٨.
٣ سورة يونس آية: ١٠٦.
٤ البخاري: التوحيد (٧٥١٠)، ومسلم: الإيمان (١٩٣)، وابن ماجة: الزهد (٤٣١٢)، وأحمد (٣/١١٦، ٣/١٤٤، ٣/٢٤٤، ٣/٢٤٧)، والدارمي: المقدمة (٥٢).
٥ أبو داود: الفتن والملاحم (٤٢٥٢)، وابن ماجة: الفتن (٣٩٥٢)، وأحمد (٥/٢٨٤).
١ سورة الأنفال آية: ٣٩.
٢ سورة الحديد آية: ٢٥.
٣ سورة الحج آية: ٤١.