الرسالة السابعة: لعالم من أهل المدينة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم. ثم ينتهي إلى جناب … لا زال محروس الجناب، بعين الملك الوهاب.
وبعد، الخط وصل، أوصلك الله إلى رضوانه، وسر الخاطر حيث أَخبر بطيبكم. فإن سألت عنا، فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وإن سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس، فما اختلفنا في شيء من شرائع الإسلام، من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، ولا في شيء من المحرمات. الشيء الذي عندنا زين هو عند الناس زين، والذي عندهم شين، هو عندنا شين، إلا أنا نعمل بالزين ونغصب الذي يدنا عليه، وننهى عن الشين ونؤدب الناس عليه.
والذي قلب الناس علينا: الذي قلبهم على سيد ولد آدم ﷺ، وقلبهم على الرسل من قبله: ﴿كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ﴾ ١. ومثل ما قال ورقة للنبي ﷺ: والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.
فرأسُ الأمر عندنا وأساسه: إخلاص الدين لله. نقول: ما يُدعى إلا الله، ولا يُنذر إلا لله، ولا يُذبح القربان إلا لله، ولا يُخاف خوف الله إلا من الله. فمن جعل من هذا شيئًا لغير الله فنقول: هذا الشرك بالله الذي قال الله فيه: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ ٢ الآية. والكفار الذين قاتلهم النبي ﷺ واستحلدماءهم يقرّون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، النافع الضار المدبّر لجميع الأمور؛ واقرأ قوله تعالى لنبيه ﷺ: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ أمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصارَ﴾ ١ الآية، ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ ٢.
وأخبر الله عن الكفار أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد؛ واذكر قوله سبحانه: ﴿فَإذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٣، والآية الأخرى: ﴿وإذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٤. وبيّن غاية الكفار ومطلبهم: أنهم يطلبون الشفع. واقرأ أول سورة الزمر، تراه سبحانه بيّن دين الإسلام، وبيّن دين الكفار ومطلبهم، والآيات في هذا من القرآن ما تحصى ولا تعد.
وأما الأحاديث الثابتة عنه ﷺ، فلما قال بعض الصحابة: ما شاء الله وشئت، قال:؟ أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله وحده «٥، وفي الحديث الثاني، قال بعض الصحابة: قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق، قال:»إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله وحده «٦.
وفي الحديث الثالث: أن أم سلمة، ﵂، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال:؟» أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح – أو العبد الصالح – بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئكشرار الخلق عند الله يوم القيامة» ١.
والحديث الرابع: لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترَدّ على فقرائهم» ٢.
والحديث الخامس: عن معاذ قال: «كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: أن لا يعذّب مَن لا يشرك به شيئًا» ٣ الحديث. والأحاديث في هذا ما تحصى.
وأما تنويهه ﷺ بأن دينه يتغير بعده، فقال ﷺ: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي! عضوا عليها بالنواجذ! وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» ٤. وفي الحديث عنه ﷺ: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد» ٥.
وفي الحديث قال: «افترقت الأمم قبلكم: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار، إلا واحدة. قالوا: من الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي».
وفي الحديث قال ﷺ: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» ٦.
ويكون عندك معلومًا: أن أساس الأمر ورأسه، ودعوة الرسل من أولهمإلى آخرهم: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه؛ قال تعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أنا فاعْبُدُونِ﴾ ١، وقال تعالى: ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ ٢، وقال تعالى: ﴿يا أيُّها المُدَّثِّرُ﴾ ٣ الآيتين.
ويكون عندك معلومًا: أن لله تعالى أفعالًا، وللعبيد أفعالًا. فأفعال الله: الخلق والرزق والنفع والضر والتدبير؛ وهذا أمر ما ينازع فيه لا كافر ولا مسلم. وأفعال العبد: العبادة: كونه ما يدعو إلا الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يذبح إلا له، ولا يخاف خوف السر إلا منه، ولا يتوكل إلا عليه. فالمسلم من وحّد الله بأفعاله سبحانه، وأفعاله بنفسه. والمشرك: الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه، ويشرك بأفعاله بنفسه.
وفي الحديث: «لما نَزَّلَ الله عليه: ﴿قُمْ فَأنْذِرْ﴾، صعد الصفا ﷺ فنادى: واصباحاه! فلما اجتمع إليه قريش قال لهم ما قال، فقال عمه: تبًا لك! ما جمعتنا إلا لهذا! وأنزل الله فيه: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ ٤». وقال ﷺ: «يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئًا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئًا» ٥. أين هذا من قول صاحب البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به … سواك عند حلول الحادث العممِ
وقوله:
ولن يضيق رسول الله جاهُك بي … إذا الكريم تَجَلّى باسم منتقمِوذكر صاحب السيرة «أنه صلوات الله وسلامه عليه قام يقنت على قريش، ويخصص أناسًا منهم، في مقتل حمزة وأصحابه، فأنزل الله عليه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ ١ الآية». ولكن مثل ما قال ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ» ٢.
فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! الذي نكفّر: الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفّر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج، ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد. ولكن نسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل. ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي﴾ ٣ الآية.
ويكون عندك معلوما: أن أعظم المراتب وأجلّها عند الله: الدعوة إليه، التي قال الله: ﴿ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إلى اللَّهِ﴾ ٤ الآية، وفي الحديث: «والله، لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من حمر النعم» ٥.
ثم بعد هذا، يذكر لنا: أن عدوان الإسلام الذين ينفِّرون الناس عنه، يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول ﷺ، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! بل نشهد أن رسول الله ﷺ الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفّعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه.
هذا اعتقادنا، وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح،من المهاجرين والأنصار، والتابعين وتابع التابعين، والأئمة الأربعة، ﵃ أجمعين. وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباعه وشرعه؛ فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة، فإن اجتماعهم حجة. والقائل: إنه يطلب الشفاعة بعد موته، يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله، أو من إجماع الأمة؛ والحق أحق أن يتبع.
١ سورة المؤمنون آية: ٤٤.
٢ سورة النساء آية: ٤٨.١ سورة يونس آية: ٣١.
٢ سورة المؤمنون آية: ٨٨-٨٩.
٣ سورة العنكبوت آية: ٦٥.
٤ سورة لقمان آية: ٣٢.
٥ ابن ماجة: الكفارات (٢١١٧)، وأحمد (١/٢٢٤).
٦ أحمد (٥/٣١٧).
١ البخاري: الصلاة (٤٢٧، ٤٣٤) والجنائز (١٣٤١) والمناقب (٣٨٧٣)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (٥٢٨)، والنسائي: المساجد (٧٠٤)، وأحمد (٦/٥١).
٢ البخاري: الزكاة (١٣٩٥)، ومسلم: الإيمان (١٩)، والترمذي: الزكاة (٦٢٥)، والنسائي: الزكاة (٢٤٣٥)، وأبو داود: الزكاة (١٥٨٤)، وابن ماجة: الزكاة (١٧٨٣)، وأحمد (١/٢٣٣)، والدارمي: الزكاة (١٦١٤).
٣ البخاري: الجهاد والسير (٢٨٥٦)، ومسلم: الإيمان (٣٠)، والترمذي: الإيمان (٢٦٤٣)، وابن ماجة: الزهد (٤٢٩٦)، وأحمد (٣/٢٦٠، ٥/٢٢٨، ٥/٢٢٩، ٥/٢٣٠، ٥/٢٣٤، ٥/٢٣٦، ٥/٢٣٨، ٥/٢٤٢).
٤ أبو داود: السنة (٤٦٠٧)، والدارمي: المقدمة (٩٥).
٥ البخاري: الصلح (٢٦٩٧)، ومسلم: الأقضية (١٧١٨)، وأبو داود: السنة (٤٦٠٦)، وابن ماجة: المقدمة (١٤)، وأحمد (٦/٧٣، ٦/١٤٦، ٦/١٨٠، ٦/٢٤٠، ٦/٢٥٦، ٦/٢٧٠).
٦ البخاري: أحاديث الأنبياء (٣٤٥٦)، ومسلم: العلم (٢٦٦٩)، وأحمد (٣/٨٤، ٣/٨٩، ٣/٩٤).
١ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
٢ سورة النحل آية: ٣٦.
٣ سورة المدثر آية: ١.
٤ سورة المسد آية: ١.
٥ البخاري: الوصايا (٢٧٥٣) وتفسير القرآن (٤٧٧١)، ومسلم: الإيمان (٢٠٦)، والنسائي: الوصايا (٣٦٤٦)، والدارمي: الرقاق (٢٧٣٢).
١ سورة آل عمران آية: ١٢٨.
٢ مسلم: الإيمان (١٤٥)، وابن ماجة: الفتن (٣٩٨٦)، وأحمد (٢/٣٨٩).
٣ سورة آل عمران آية: ٣١.
٤ سورة فصلت آية: ٣٣.
٥ البخاري: المناقب (٣٧٠١)، ومسلم: فضائل الصحابة (٢٤٠٦)، وأبو داود: العلم (٣٦٦١)، وأحمد (٥/٣٣٣).