المسألة الأولى ١
سئل، ﵀، ٢ عن قوله تعالى في سورة هود: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٣.
فأجاب بقوله:
ذكر عن السلف من أهل العلم فيها: أنواع ما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه؛ فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله٤ كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صدقة، وصلة، وإحسان إلى الناس، ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم أو كلام في عرض، مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصاً لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازى به بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعم عليها، ونحو ذلك، ولا همة لهم في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس، وقد غلط فيه بعض مشايخنا بسبب عبارة ذكرها في الإقناع في أول باب النية، لما قسم الإخلاص إلى٥ مراتب وذكر هذا، ظن أنه يسمى إخلاصًا مدحًا له، وليس كذلك، وإنما أراد أنه٦ لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أن الآية نزلت فيه، وهو: أن يعمل أعمالاً صالحة، ونيته رياء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.
ولما ١ ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار، وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، فبكى ٢ معاوية بكاء شديداً، ثم قرأ هذه الآية.
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة ويقصد بها مالاً، مثل: الحج لمال يأخذه، لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم. فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: “ تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم “ ٣ إلى آخر الحديث ٤.
وكما يتعلم الرجل العلم لأجل مدارسة ٥ أهله، أو مكسبهم، أو رياستهم أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثير – وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل.
والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا للهوحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا من ١ الخير الكثير العظيم الدائم وهو: الجنة، ولم يهربوا ٢ من الشر العظيم وهو: النار. النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفرًا يخرجه عن الإسلام، مثل: اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أو كفر أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لأنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام تمنع قبول أعمالهم. فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها. قال بعضهم: لو أعلم أن الله يقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ . فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والملك ٣ والمال، ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله أو أكثر، فصارت الدنيا أكبر قصده، ولذلك قيل: ٤ قصد الدنيا.
وذلك القليل ٥ كأنه لم يكن، كقوله ﷺ: “ فإنك لم تصلّ “ ٦، والأول أطاع الله ابتغاء وجه الله، لكن أراد من ٧ الثواب في الدنيا، وخاف على الحظ والعيال، مثل ما يقولالفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا.
والثاني والثالث واضح، لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج، ابتغاء وجه الله، طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً كثيرة أو قليلة، قاصدًا بها الدنيا، مثل: أن يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلّص وأهل النار الخلّص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله. ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال.
وأما الفرق بين الحبوط والبطلان فلا أعلم بينهما فرقًا. والله أعلم.
1 من هنا حتى صفحة ٩٢، مصدره تاريخ ابن غنام.
٢ في المخطوطة: ﵁ ، والدعاء بالترضي مشتهر عن الصحابة.
٣ سورة هود آية: ١٥–١٦.
٤ في طبعة الأسد: (مما يفعله) .
٥ في المخطوطة: بدون (إلى) .
٦ في طبعة أبا بطين: بدون (لا) ، والتصحيح من المخطوطة.
1في طبعة أباطين والمصطفوية: (وكما ذكر) .
٢ في المخطوطة: (بكى) ، بدون فاء، وكذلك في الطبعة المصطفوية.
٣ البخاري: الجهاد والسير (٢٨٨٧) ، والترمذي: الزهد (٢٣٧٥) ، وابن ماجة: الزهد (٤١٣٦) .
٤ في المطبوعة: (تعس عبد الدينار … إلخ) . ومن هنا حتى ص١٨٧ من المطبوعة: ساقط من المصورة. وقد ذكر في هامش المطبوعة ما يلي: سقط من أصل الطبعة الأولى أربع كراريس، وأثبتناها هنا، وهو من قوله: (إلخ) إلى قوله: “وقال الشيخ، ﵀ ورضي عنه: قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾ الآية. (عبارة أبابطين ج١، ص ١٧٨) .
٥ في المخطوطة: (مدرسة) ، والصواب ما ذكر.
1في طبعة الأسد: بدون (من) ، وكذا في طبعة أبا بطين.
٢ في طبعة ناصر الدين الأسد: (ولم يرهبوا) ، وكذا في طبعة أبا بطين.
٣ في طبعة الأسد: (والمكث) ، وكذا في طبعة أبا بطين.
٤ في طبعة الأسد: (قبل) وكذا في طبعة أبا بطين.
٥ أي: القصد القليل للآخرة …
٦ البخاري: الأذان (٧٥٧) ، ومسلم: الصلاة (٣٩٧) ، والترمذي: الصلاة (٣٠٣) ، والنسائي: الافتتاح (٨٨٤) ، وأبو داود: الصلاة (٨٥٦) ، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (١٠٦٠) والأدب (٣٦٩٥) ، وأحمد (٢/٤٣٧) .
٧ في طبعة الأسد: بدون (من) ، وكذا في طبعة أبا بطين.
الكتاب: فتاوى ومسائل (مطبوع ضمن مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الرابع).
المؤلف: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (ت ١٢٠٦هـ).
المحقق: صالح بن عبدالرحمن الأطرم، محمد بن عبدالرزاق الدويش.
الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، المملكة العربية السعودية.
عدد الصفحات: ١٢٩