الرسالة الثالثة: ومنها: رسالة أرسلها إلى محمد بن عيد، من مطاوعة ثرمدا، قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن عباد، وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه.
وبعد، وصل الكراس، وتذكرون أن الحق إن بان لكم اتبعتم، وفيه كلام غير هذا يسر الخاطر من طرفك خاصة بسبب أن لك عقلًا. والثانية أن لك عرضًا تشح به. والثالثة: أن الظن فيك: إن بان لك الحق أنك ما تبيعه بالزهايد.
فأما تقريركم أول الكلام: أن الإسلام خمس، كأعضاء الوضوء، وأنكم تعرفون كلام الله وكلام رسوله وإجماع العلماء، أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية، منها: اعتقاد القلب، وإن لم يعمل أو يتكلم، يعني: إذا اعتقد خلاف ما علّمه الرسول أمته بعد ما تبين له. ومنها: كلام باللسان، وإن لم يعمل ولم يعتقد. ومنها عمل بالجوارح، وإن لم يعتقد ويتكلم. ولكن، من أظهر الإسلام، وظننا أنه أتى بناقض، لا نكفّره بالظن، لأن اليقين لا يعرفه بالظن ١. وكذلك لا نكفّر من لا نعرف منه الكفر، بسبب ناقض ذُكر عنه ونحن لم نتحققه.
وما قررتم: هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه، ولكن قبل الكلام، اعلم أني عُرفت بأربع مسائل:
الأولى: بيان التوحيد، مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس.
الثانية: بيان الشرك، ولو كان في كلام من ينتسب إلى العلم ٢ أو عبادة،من دعوة غير الله، أو قصده بشيء من العبادة، ولو زعم أنهم يريدون أنهم شفعاء عند الله؛ مع أن أكثر الناس يظن أن هذا من أفضل القربات، كما ذكرتم عن العلماء أنهم يذكرون أنه قد وقع في زمانهم.
الثالثة: تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفّر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك وأن رسول الله ﷺ بُعث بإنكاره، وأقر بذلك ليلًا ونهارًا، ثم مدحه وحسّنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم.
وأما ما ذكر الأعداء عني: أني أكفّر بالظن، وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.
الرابعة: الأمر بقتال هؤلاء خاصة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع، صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد وفي نفي الشرك، وردَّوا عليَّ التكفير والقتال. إذا تحققت ما ذكرت لك، انبنى الجواب على ما ذكرتم في أول الأوراق، من إقراركم بمعرفة نواقض الإسلام بإجماع العلماء، بشرط أنكم لا تكفّرون بالظن، ولا من لا تعرفون، فنقول: من المعلوم عند الخاص والعام، ما عليه البوادي أو أكثرهم، فإن كابر معاند لم يقدر على أن يقول: إن عنَزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم مشاهير، هم والأتباع إنهم مقرون بالبعث ولا يشكّون فيه، ولا يقدر أن يقول: إنهم يقولون: إن كتاب الله عند الحضر وأنهم عانقوه ١ ومتبعون ما أحدث آباؤهم مما يسمونه الحق، ويفضلونه على شريعة الله. فإن كان للوضوء ثمانية نواقض،ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من المائة ناقض. فلما بينت ما صرحت به آيات التنْزيل، وعلّمه الرسول أمته، وأجمع عليه العلماء: من ١ أنكر البعث أو شك فيه، أو سب الشرع، أو سب الأذان إذا سمعه، أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سب من زعم أن المرأة ترث، أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه، إنه كافر مرتد، قال علماؤكم: معلوم أن هذا حال البوادي، لا ننكره، ولكن يقولون: «لا إله إلا الله»، وهي تحميهم من الكفر، ولو فعلوا كل ذلك. ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم، فلما أظهرتُ تصديق الرسول فيما جاء به، سبوني غاية المسبة، وزعموا أني أكفّر أهل الإسلام وأستحل أموالهم، وصرحوا أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر، وأن البوادي يفعلون من النواقض مع علمهم أن دين الرسول عند الحضر، وجحدوا كفرهم. وأنتم تذكرون أن مَن رد شيئًا مما جاء به الرسول بعد معرفته، أنه كافر.
فإذا كان المويس وابن إسماعيل والعديلي وابن عباد وجميع أتباعهم كلهم على هذا، فقد صرحتم غاية التصريح أنهم كفار مرتدون، وإن ادّعى مدّع أنهم يكفّرونهم، أو ادّعى أن جميع البادية لم يتحقق من أحد منهم من النواقض شيئًا، أو ادّعى أنهم لا يعرفون أن دين الرسول خلاف ما هم عليه؛ فهذا كمن ادّعى أن ابن سليمان وسويد وابن دواس وأمثالهم عباد زهاد فقراء، ما شاخوا في بلد قط. ومن ادعى هذا فأسقط الكلام معه.
ونقول ثانيًا: إذا كانوا أكثر من عشرين سنة، يقرون ليلًا ونهارا سرًا وجهارًا، أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك وهو صادق في إنكاره،ولكن لو يسلم من التكفير والقتال كان على حق. هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد. ثم مع هذا، يعادون التوحيد ومن مال إليه، العداوة التي تعرف، ولو لم يكفِّر ويقاتل، وينصرون الشرك نصره الذي تعرف، مع إقرارهم بأنه شرك، مثل كون المويس وخواص أصحابه ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز وقبة رجب سنة ١، يقولون: إنه قد أخرج من ينكر قببكم وما أنتم عليه، وقد أحل دماءهم وأموالهم. وكذلك ابن إسماعيل وابن ربيعة والمويس أيضًا، بعدهم بسنة، رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب، وأغروهم بمن صدق النبي ﷺ، وأحلوا دماءنا وأموالنا حتى جرى على الناس ما تعرف، مع أن كثيرًا منهم لم يكفر ولم يقاتل. وقررتم أن من خالف الرسول في عشر معشار هذا، ولو بكلمة، أو عقيدة قلب، أو فعل، فهو كافر، فكيف بمن جاهد بنفسه وماله وأهله، ومن أطاعه في عداوة التوحيد وتقرير الشرك، مع إقراره بمعرفة ما جاء به الرسول؟ فإن لم تكفّروا هؤلاء ومن اتبعهم، ممن عرف أن التوحيد حق وأن ضده الشرك، فأنتم كمن أفتى بانتقاض وضوء من بزغ منه مثل رأس الإبرة من البول، وزعم أن من يتغوط ليلًا ونهارًا، وأفتى للناس أن ذلك لا ينقض، وتبعوه على ذلك حتى يموت، أنه لا ينقض وضوءه.
وتذكرون أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا، ولكن أقطع أن كفر من عبد قبة أبي طالب لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله، كما قال تعالى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيارِكُمْ﴾ ٢ الآيتين.
وأنا أمثل لك مثالًا، لعل الله أن ينفعك به، لعلمي أن الفتنة كبيرة، وأنهم يحتجونبما تعرفون: منها ما ذكر في الأوراق أنهم لم يقصدوا بحربكم ردّ التوحيد وإحياء الشرك، وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم خوف البغي عليهم. فنقول: لو نقدّر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلمًا عظيمًا في أموالهم وبلادهم، ومع هذا خافوا استيلاءهم على بلادهم ظلمًا وعدوانًا، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم إلا أن يقولوا: نحن معكم على دينكم ودنياكم، ودينكم هو الحق ودين السلطان هو الباطل، وتظاهروا بذلك ليلًا ونهارًا، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج ولم يتركوا الإسلام بالفعل، لكن لما تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم دفع الظلم عنهم، هل يشك أحد أنهم مرتدون في أكبر ما يكون من الكفر والردة، إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل، مع علمهم أنه حق، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب، وأنه لا يتصور أنهم لا يتيهون ١ لأنهم أكثر من المسلمين، ولأن الله أعطاهم من الدنيا شيئًا كثيرًا، ولأنهم أهل الزهد والرهبانية.
فتأمل هذا تأملًا جيدًا، وتأمل ما صدرتم به الأوراق من موافقتكم به الإسلام، ومعرفتكم بالناقض إذا تحققتموه، وأنه يكون بكلمة ولو لم تُعْتقد، ويكون بفعل ولو لم يتكلم، ويكون في القلب من الحب والبغض ولو لم يتكلم ولم يعمل، تبين لك الأمر، اللهم إلا إن كنتم ذاكرين في أول الأوراق وأنتم تعتقدون خلافه، فذلك أمر آخر. وأما ما ذكرتم من كلام العلماء، فعلى الرأس والعين، ولكن عنه جوابان:
أحدهما: أنكم لو لم تنقلوا كلام ابن عقيل في الفنون، وكلام الشيخ في اقتضاء الصراط المستقيم، وكلام ابن القيم، لقلت: لعلهم مخطئون قائلون بمبلغعلمهم، هذا كله عندنا في هذه الكتب كما هو عندكم؛ وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل، أعني: دعوة صاحب التربة، ودسَّ الرقاع، وأنتم تعلمون ذلك. وأصرح منه: كلام الشيخ في قوله: ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة، يا سبحان الله! كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها: إن هذا مَن فعله كان مرتدًا، وإن المسلم إذا ذبح للزهرة والجن ولغير الله، فهو مما أُهل لغير الله به، وهي أيضا ذبيحة مرتد، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان؛ فصرح أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة صار كافرًا مرتدًا، وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل لأنه ذبيحة مرتد؟
وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة، بكفر من فعل شيئًا من الذبح والدعوة، حتى ذكر ثابت بن قرة وأبا معشر البلخي، وذكر أنهم كفار مرتدون وأمثالهم، مع كونهم من أهل التصانيف. وأصرح من الجميع: كلام ابن القيم في كثير من كتبه. فلما نقلتم بعض العبارة، وتركتم بعضها، علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الشرهة عليك، لو أنك فاعل كما فعل بعض أهل الحسا، لما صنف بعضهم كتابًا في الرد علينا يريد أن يبعثه، تكلم رجل منهم وقال: أحب ما إلى ابن عبد الوهاب وصول هذا إليه، أنتم ما تستحيون. فتركوا الرسالة.
الجواب الثاني: أنه على سبيل التنزل، أن الشرك لا يكفر من فعله، أو أنه شرك أصغر، أو أنه معصية غير الكفر، مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك، فإن أردت بينت لك في غير هذه المرة معاني هذه العبارات من الأدلة من كلام كل رجل، كما بينته لك من كلام الشيخ. لكن أنتم مسلّمون أن رسول الله ﷺ قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلًا أقر بذلك مع كونه لم يفعله، لكنه زينه للناس ورغبهم فيه، أليس هذا كافرًا مرتدًا؟ ولو قدّرناأن الأمر الذي كرهه وصد الناس عنه، ما أمر به الرسول إلا أمر استحباب كركعتي الفجر، أو أن الذي نهى عنه ما نهى عنه إلا نهي تنْزيه كأكل بالشمال، والنوم للجنب من غير وضوء، ولو أن رجلًا عرف نهي الرسول، وزعم لأجل غرض من الأغراض أن الأكل بالشمال هو الأحب المرضي عند الله، وأن الأكل باليمين يضر عند الله، وأن الوضوء للجنب إذا أراد النوم يضر عند الله، وأن النوم من غير وضوء أحب إلى الله، مع علمه بما قال الرسول ﷺ، أليس هذا كلام كافر مرتد؟ فكيف بمن سب دين الله الذي بعث به جميع الأنبياء مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره، ودعا الناس إليه مع معرفته؟ ولكن أرى لك أن تقوم في السحَر، وتدعو بقلب حاضر، بالأدعية المأثورة، وتطرح نفسك بين يدي الله أن يهديك لدينه ودين نبيه عليه السلام، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
١ في المصوّرة: لا يرفع بالظن.
٢ في المصوّرة: إلى علم.
١ في المخطوطة والمصورة: (عايفينه).
١ في المصوّرة: (أن من).
١ في المصورة: (سية رجب) وفي المخطوطة: (سنة رجب)، وفي الدرر مثل الأصل.
٢ سورة الممتحنة آية: ٨.
١ في المخطوطة: (ولأنه لا يتصور أنهم يتيهون)، وفي المصورة: (ولا يتصور أنهم يتيهون).